فصل: سنة ست وخمسين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة خمس وخمسين وستمائة:

فيها تزايدت الوحشة بين الملك المعز أيبك وبين شجر الدر، فعزم على قتلها. وكان له منجم قد أخبره أن سبب قتلته امرأة، فكانت هي شجر الدر. وذلك أنه كان قد غير عليها، وبعث يخطب ابنة صاحب الموصل.
وأتفق أن المعز قبض على عدة من البحرية، وهو على أم البادر، وسيرهم ليعتقلوا بقلعة الجبل، وفيهم أيدكين الصالحي. فلما وصلوا تحت الشباك الذي تجلس فيه شجر الدر علم أيدكين أنها هناك، فخدم برأسه وقال التركي: المملوك أيدكين بشمقدار والله يا خوند ما علمنا ذنباً يوجب مسكنا إلا أنه لما سير يخطب بنت صاحب الموصل، ما هان علينا لأجلك، فإنا تربية نعمتك ونعمة الشهيد المرحوم، فلما عتبناه تغير علينا وفعل بنا ما ترين فأومأت شجر الدر إليه بمنديل، يعني: لقد سمعت كلامك، فلما نزلوا بهم إلى الجب قال أيدكين: إن كان حبسنا فقد قتلناه.
وكانت شجر الدر قد بعثت نصراً العزيزي بهدية إلى الملك الناصر يوسف، وأعلمته أنها قد عزمت على قتل المعز، والتزوج به وممليكه مصر. فخشي الملك الناصر يوسف أن يكون هذا خديعة، فلم يجبها بشيء.
وبعث بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يحذر الملك المعز من شجر الدر وأنها باطنت الملك الناصر يوسف، فتباعد ما بينهما، وعزم على إنزالها من القلعة إلى دار الوزارة. وكانت شجر الدر قد استبدت بأمور المملكة ولا تطلعه عليها، وتمنعه من الاجتماع بأم ابنه وألزمته بطلاقها، ولم تطلعه على ذخائر الملك الصالح.
فأقام الملك المعز بمناظر اللوق أياماً، حتى بعثت شجر الدر من حلف عليه. فطلع القلعة وقد أعدت له شجر الدر خمسة ليقتلوه: منهم محسن الجوجري، وخادم يعرف بنصر العزيزي، ومملوك يسمى سنجر. فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشري شهر ربيع الأول، ركب الملك المعز من الميدان بأرض اللوق، وصعد إلى قلعة الجبل آخر النهار. ودخل إلى الحمام ليلاً، فأغلق عليه الباب محسن الجوجري، وغلام كان عنده شديد القوة ومعهما جماعة. وقتلوه بأن أخذه بعضهم بأنثييه وبخناقه، فاستغاث المعز بشجرة الدر فقالت اتركوه، فأغلظ لها محسن الجوجري في القول، وقال لها: متى تركناه لا يبقي علينا ولا عليك، ثم قتلوه.
وبعثت شجر الدر في تلك الليلة إصبع المعز وخادمة إلى الأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير، وقالت له: قم بالأمر، فلم يجسر وأشيع أن المعز مات فجأة في الليل، وأقاموا الصائح في القلعة، فلم تصدق مماليكه بذلك: وقام الأمير لهم الدين سنجر الغتمي- وهو يومئذ شوكة البحرية وشديدهم-، وبادر هو والمماليك إلى الدور السلطانية، وقبضوا على الخدام والحريم وعاقبوهم، فأقروا بما جرى. وعند ذلك قبضوا على شجر الدر، ومحسن الجوجري، ناصر الدين حلاوة، وصدر الباز، وفر العزيزي إلى الشام.
فأراد مماليك المعز قتل شجر الدر، فحماها الصالحية، ونقلت إلى البرج الأحمر بالقلعة ثم لما أقيم ابن المعز في السلطنة، حملت شجر الدر إلى أمه في يوم الجمعة سابع عشريه فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت. وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سراويل وقميص، فبيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكتة سراويلها. ثم دفنت بعد أيام- وقد نتنت، وحملت في قفة- بتربتها قريب الشهد النفيسي. وكانت من قوة نفسها، لما علمت أنها قد أحيط بها، أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر واللآلئ، كسرته في الهاون. وصلب محسن الجوجري على باب القلعة، ووسط تحت القلعة أربعون طواشياً وصلبوا من القلعة إلى باب زويلة. وقبض على الصاحب بهاء الدين بن حنا، لكونه وزير شجر الدر، وأخذ خطة بستين ألف دينار.
فكانت مدة سلطنة الملك المعز سبع سنين تنقص ثلاثة وثلاثين يوماً، وعمره نحو ستين سنة وكان ملكاً حازماً شجاعاً سفاكاً للدماء: قتل خلقاً كثيراً، وشنق عالماً من الناس بغير ذنب ليوقع في القلوب مهابته، وأحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده ووزر له الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ثم صرفه، واستوزر القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، فتمكن منه ممكناً زائداً وأحدث القاضي الأسعد حوادث شنيعة من المظالم، واستناب في الوزارة القاضي زين الدين يعقوب بن الزبير- كان يعرف اللسان التركي-، ليحفظ له مجالس أمراء الدولة، ويطالعه ما يقال عنه.

.الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز أيبك:

أقامه أمراء الدولة سلطاناً بقلعة الجبل، يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة، وعمره خمس عشرة سنة تقريباً، وحلفوا له واستحلفوا العسكر، ماخلا الأمير عز الدين أيبك الحلبي المعروف بأبيك الكبير، فإنه توقف وأراد الأمر لنفسه، ثم وافق خوفاً على نفسه. فركب الأمير قطز- هو والأمراء- وقبض على الأمير سنجر الحلبي، يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر، واعتقله فركب الأمير أيبك الحلبي الكبير في الأمراء الصالحية فلم توفق، وتقنطر عن فرسه خارج باب زويلة، فأدخل إلى القاهرة ميتاً. وأقيم الأمير سيف الدين قطز نائب السلطة على عادته، وصار مدبر الدولة الملك المنصور علي.
وأقيم الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الصالحي أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الحلبي واستمر الوزرة شرف الدين الفائزي على عادته فنقل عنه الأمير سابق الدين بوزيا الصيرفي، والأمير ناصر الدين محمد بن الأطروش الكردي أمير جاندار، أنه قال: المملكة ما تمشى بالصبيان، والرأي أن يكون الملك الناصر. فتوهمت أم المنصور من أنه يرسل إلى الملك الناصر، وقبضت عليه وأدخلته إلى الدور، وأخذ خطة بمائة ألف دينار. واستقر في الوزارة بعده قاضي القضاة بدر الدين يوسف بن الحسن السنجاري، مضافاً إلى القضاء وقد أعيد إليه. وأحيط بأموال الفائزي، وقبض على جماعة بسببه. ثم إن السنجاري استعفى من الوزارة وتركها في ربيع الآخر، فتقلد الوزارة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف العلائي، المعروف بابن بنت الأعز، بعد السنجاري.
وفي ليلة الخامس عشر من جمادى الآخرة: خسف القمر بحمرة شديدة، وأصبحت الشمس حمراء، فأقامت كذلك أياماً وهي ضعيفة اللون متغيرة.
وفيها بلغ البحرية الذين كانوا ببلاد السلاجقة الروم موت الملك المعز، فساروا في البر والبحر، ووصلوا إلى القاهرة. فلم تطل مدتهم حتى كرهوا المنصور بن المعز، لكثرة لعبه بالحمام ومناقرته بالديوك ومعالجته بالحجارة وركوبه الحمير الفرء في القلعة، ومناطحته بالكباش.
وفيها دخل الصارم أحمد عينه الصالحي بجماعة، فقتلوا الوزير الفائزي في جمادى الأولى. وأخرج في نخ قال ابن واصل: حكي القاضي برهان الدين أخو الصاحب بهاء الدين بن حنا قال: دخلت على شرف الدين الفائزي وهو معتقل، فسألني أن أتحدث في إطلاقه، بحكم أنه يحمل في كل يوم ألف دينار علينا. فقلت له: وكيف تقدر على ذلك. فقال: أقدر عليه إلى تمام السنة، وإلى أن تمضي سنة يفرج الله تعالى. فلم يلتفت مماليك الملك المعز إلى ذلك وعجلوا بهلاكه وخنقوه، وحمل إلى القرافة ودفن بها.
وفيها وقعت الوحشة بين الملك الناصر وبين من عنده من البحرية، ففارقوه في شوال، وقصدوا الملك المغيث صاحب الكرك. فأخرج الأمير سيف الدين قطز العسكر الصالحية، فواقعوهم في يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، وأسروا الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، وقتل الأمير سيف الدين بلغان الأشرفي. وانهزم عسكر الكرك وفيهم بيبرس البندقداري الذي ملك مصر. وعاد العسكر إلى القاهرة، فضمن الأمير شرف الدين قيران- المعزي وهو أستادار السلطان- الأمير قلاوون وأطلقه. فأقام قلاوون بالقاهرة قليلاً، ثم اختفى بالحسينية عند سيف الدين قطليجا الرومي، فزوده وسار إلى الكرك.
وفيها بعث الخليفة إلى الناصر يوسف بدمشق خلعة وتقليداً وطوقاً، وفيها حسن البحرية للملك المغيث أخذ ملك مصر، فكاتب عدة من الأمراء ووعدهم. وفيها قوي هولاكو بن طولو بن جنكزخان، وقصد بغداد وبعث يطلب الضيافة من الخليفة فكثر الإرتجاف ببغداد، وخرج الناس منها إلى الأقطار. ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة وملك ظاهر بغداد، وقتل من الناس عالماً كبيراً.
وفيها قدم إلى دمشق الفقراء الحيدرية، وعلى رءوسهم طراطير، ولحاهم مقصوصة وشواربهم بغير قص. وذلك أن شيخهم حيدر، لما أسره الملاحدة قصوا لحيته وتركوا شاربه. فاقتدوا به في ذلك وبنوا لهم زاوية خارج دمشق، ومنها وصلوا إلى مصر.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

نجم الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن بن أبي سعد البادرائي البغدادي الشافعي، رسول الخلافة وقاضي بغداد، عن إحدى وستين سنة.
وتوفي الوزير الصاحب الأسعد شرف الدين أبو سعيد هبة الله بن صاعد الفائزي.
وتوفي عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن أبي الحديد المدائني، مؤلف كتاب الفلك الدائر على المثل السائر.
ومات متملك الروم علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيسرو بن علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان. وقام بعده أخوه عز الدين كيكاوس ابن غياث كيخسرو، فملك الططر قونية منه، قفز منها إلى العلايا.

.سنة ست وخمسين وستمائة:

فيها وقع الغلاء بسائر البلاد، وارتفعت الأسعار بدمشق وحلب وأرض مصر، وأبيع المكوك القمح بحلب بمائة درهم، والشجر بستين درهماً، والبطيخة الخضراء بثلاثين درهماً، وبقية الأسعار من هذه النسبة.
وفي رابع شهر رمضان: سقطت إحدى مسان فرعون التي بعين شمس، فوجد فيها نحو المائتي قنطار نحاس، وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار.
وفيها ملك هولاكو بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله عبد الله في سادس صفر، فكانت خلافته خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وستة أيام. وانقرضت بمهلكه دولة بني العباس من بغداد، وصار الناس بغير خليفة إلى سنة تسع وخمسين وستمائة، فصح حديث حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن رسول الله قام فقال: «يا معشر قريش، إن هذا الأمر لا يزال فيكم، وأنتم ولاته حتى تحدثوا أعمالاً تخرجكم منه. فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شر خلقه، فالتحوكم كما يلتحي القضيب».
وقتل الناس ببغداد وتمزقوا في الأقطار، وخرب التتر الجوامع والمساجد والمشاهد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات، واستمروا على ذلك أربعين يوماً. وأمر هولاكو بعد القتلى، فبلغت نحو الألفي ألف قتيل، وتلاشت الأحوال بها. وملك التتار أربل، ودخل بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في طاعتهم.
وفيها كثر الوباء ببلاد الشام، فكان يموت من حلب في كل يوم ألف ومائتا إنسان. ومات من أهل دمشق خلق كثير، وبلغ الرطل التمر هندي ستين درهماً.
وفيها أنفذ الملك الناصر صاحب دمشق ابنه الملك العزيز إلى هولاكو، ومعه تقادم وعدة من الأمراء فلما وصل الملك العزيز إلى هولاكو قدم إليه ما معه، وسأله على لسان أبيه في نجدة ليأخذ مصر من المماليك، فأمر هولاكو أن يتوجه إليه بعسكر فيه قدر العشرين ألف فارس. فطار هذا الخبر إلى دمشق، فرحل من كان بها من المماليك البحرية، وصاروا إلى الملك المغيث عمر بالكرك وحرضوه على أخذ مصر، فجمع الملك المغيث وسار.
فتجهز الأمير قطز، وخرج من القلعة بالعساكر في ؟؟ فلما وصل الصالحية تسلل إلى الملك المغيث من كان كاتبه من الأمراء وصاروا إليه، فلقيهم قطز وقاتلهم. فانهزم الملك المغيث في شرذمة إلى الكرك، ومضى البحرية نحو الطور، واتفقوا مع الشهرزورية من الشرق. واستولى المصريون على من بقي من عساكر المغيث وأثقاله، وأسروا جماعة، وعادوا إلى قلعة الجبل. وقد تغير قطز على عدة من الأمراء، لميلهم إلى الملك المغيث: فقبض على الأمير عز الدين أيبك الرومي الصالحي، والأمير سيف الدين بلبان الكافوري الصالحي الأشرفي، والأمير بدر الدين بكتوت الأشرفي، والأمير بدر الدين بلغان الأشرفي، وجماعة غيرهم، وضرب أعناقهم في سادس عشري ربيع الأول، وأخذ أموالهم كلها.
وفيها فر طائفة حمن الأكراد من وجه عسكر هولاكو، يقال لهم الشهرزورية، وقدموا دمشق وعدتهم نحو ثلاثة آلاف، ومعهم أولادهم ونساؤهم. فسر بهم الملك الناصر واستخدمهم ليتقوى بهم، فزاد عنتهم وكثر طلبهم حتى خافهم، وأخذ يداريهم وما يزيدهم ذلك إلا تمرداً عليه، إلى أن تركوه وساروا إلى الملك المغيث بالكرك، فسر بهم وتاقت نفسه إلى أخذ دمشق، فخاف الناصر وتخيل من الأمراء القيمرية اللذين في دمشق فاضطرب وتحير.
وفمها مات أمير بني مرين أبو محيى بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، في رجب. وقام من بعده ابنه عمر، ونازعه عمه يعقوب بن عبد الحق وأبو محيى هو الذي فتح الأمصار، وأقام رسوم المملكة، وقسم بلاد المغرب بين عشائر بني مرين، وقام بدعوة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب تونس. وأبو يحيى أول من اتخذ الموكب الملكي منهم، وملك مدينة فاس. وقد استبد أبو يحيى بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواحد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وهذا وقد أشرفت دولة الموحدين بني عبد المؤمن على الزوال.
وفي سنة ست خمسين هذه: قدم أولاد حسن مكة، وقبضوا على إدريس وأقاموا ستة أيام، فجاء أبو نمى وأخرجهم ولم يقتل بينهم أحد.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الخليفة العباسي المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور ابن الظاهر بالله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد، آخر خلائف بني العباس مقتولاً في سادس صفر، بعدما أتلف عساكر بغداد لنهمته في جمع المال فدهي الإسلام وأهله بلينه وإسناده الأمر إلى وزيره ابن العلقمي، فإنه قطع أرزاق الأجناد، واستجر التتار حتى كان ما كان ومات الملك الناصر داود بن المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، صاحب دمشق والكرك بعدما مرت به خطوب كثيرة، عن ثلاث وخمسين سنة خارج دمشق. وله شعر بديع.
وتوفي الحافظ زكي الدين أبو عبد الله عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة المنذري الشافعي الإمام الحجة عن خمس وسبعين سنة.
ومات محيى الدين أبو المظفر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن محمد بن علي بن محمد بن جعفر بن الجرزي البكري البغدادي الحنبلي، محتسب بغداد ورسول الخلافة، عن ست وسبعين سنة.
وتوفي الصاحب محيى الدين أبو عبد الله محمد بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زيد بن هارون بن موسى بن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة العقيلي بن العديم الحنفي، عن ست وستين سنة بحلب.
وتوفي نظام الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عبد المجيد بن المولى الأنصاري الحلبي، صاحب الإنشاء بحلب.
وتوفي ناظر الجيش بحلب، واسمه عون الدين أو المظفر بن البهاء أبي القاسم عبد الحميد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن العجمي الحلبي، عن خمسين سنة وتوفي الصاحب عز الدين أبو حامد محمد بن محمد بن خالد بن محمد نصر بن القيسراني الحلبي، ناظر الدواوين بدمشق.
وتوفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى الأزدي المكي الكاتب الشاعر الماهر، صاحب الإنشاء بديار مصر، عن خمس وسبعين سنة.
وتوفي الأمير سيف الدين علي بن سابق الدين عمر بن قزل- المعروف بالمشد عن أربع وخمسين سنة، وشعره غاية في الجودة.
وتوفي شاعر بغداد جمال الدين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور الصرصري الحنبلي شهيداً، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي الأديب شرف الدين أبو الطيب أحمد بن محمد بن أبي الوفاء بن الحلاوي الموصلي، عن ثلاث وخمسين سنة بالموصل.
وتوفي الأديب سعد الدين أبو سعد محمد بن محيى الدين محمد بن علي بن عربي، بدمشق.
وتوفي الأديب نور الدين أبو بكر محمد عبد العزيز بن عبد الرحيم بن رستم الأسعردي، بدمشق.
وتوفي الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الحق بن يوسف الشاذلي الزاهد، بصحراء عيذاب.
وتوفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفتح، خطب مردا، التركي الحنبلي عن سبعين سنة، بمردا من عمل دمشق، وكان قد حدث بالقاهرة.

.سنة سبع وخمسين وستمائة:

فيها نازل التتار ماردين فلم ينالوا منها شيئاً، فرحلوا عنها إلى ميافارقين وحاصروا أهلها، حتى أكلوا من عدم الأقوات جلود النعال التي تلبس في الرجلين.
وفيها خرج الملك المغيث من الكرك بعساكره يريد دمشق، فخرج الملك الناصر من دمشق إلى محاربته، ولقيه بأريحا وحاربه، فانهزم المغيث إلى الكرك. وسار الناصر إلى القدس فأقام بعد أياماً، ثم رحل إلى زيراء فخيم على بركتها. وأقام هناك مدة ستة أشهر، والرسل تتردد بينه وبين المغيث إلى أن وقع الاتفاق بينهما، على أن الناصر يتسلم الطائفة من المغيث البحرية جميعهم، وأن المغيث يبعد عنه الشهرزورية، صارت الشهرزورية من بلاد الكرك إلى الأعمال الساحلية.
وسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري إلى الملك الناصر يلتمس منه الأمان، فحلف له وحضر ركن الدين بيبرس إليه على بركة زيزاء، ومعه بدر الدين بيسري، وإيتمش المسعودي، وطيبرس الوزيري، وبلباي الرومي الدوادار، وأقوش الرومي ولاحين الدرفيل الدوادار، وكشتغدي المشرف، وأيدغمش الشيخي، وأيبك الشيخي، وبلبان المهراني، وخاص ترك الكبير، وسنجر المسعودي، وأياز الناصري، وسنجر الهمامي، وأيبك العلائي، وطمان الشقيري، ولاجين الشقيري، وسلطان الإلدكزي، وبلبان الإقسيسي، وعز الدين بيبرس. فأكرمه الملك الناصر، وأقطعه نصف نابلس وجينين وأعمالها، بمائة وعشرين فارساً. وبعث المغيث سائر البحرية إلى الملك الناصر، فرحل عن زيزاء إلى دمشق، وقبض على البحرية واعتقلهم.
وفيها قدم الملك العزيز بن الملك الناصر من عند هولاكو، وعلى يده كتابه ونصه: الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب أنا نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها وهدمنا بنيانها وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون}، واستحضرنا خليفها وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم واستوجب منا العدم. وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة فجمع المال ولم يعبأ بالرجال. وكان قد نمى ذكره وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال.
إذا تم أمر دنا نقصه ** توق زوالا إذا قيل تم

إذا كنت في نعمة فارعها ** فإن المعاصي تزيل النعم

وكم من فتى بات في نعمة ** فلم يدر بالموت حتى هجم

إذا وقفت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين، تأمن شره وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى}، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بأموالهم وحريمهم إلى كروان سراي فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.
أين النجاة ولا مناص لهارب ** ولى البسيطان الثرى والماء

ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ** في قبضتي الأمراء والوزراء

فانزعج الناصر وسير حريمه إلى الكرك وخاف الناس بدمشق خوفاً كثيراً لعلمهم أن التتر قد قطعوا الفرات، وسار كثير منهم إلى جهة مصر، وكان الوقت شتاء فمات خلائق بالطريق، ونهب أكثرهم. وبعث الناصر، عندما بلغه توجه هولاكو نحو الشام بالصاحب كمال الدين عمر بن العديم إلى مصر، يستنجد بعسكرها.
فلما قدم ابن العديم إلى القاهرة، في يوم 000، عقد مجلس بالقلعة عند الملك المنصور، وحضر قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، والشيخ عز الدين بن عبد السلام: وسئلا في أخذ أموال العامة ونفقتها في العساكر، فقال ابن عبد السلام: إذا لم يبق في بيت المال شيء أو أنفقتم الحوائض الذهب ونحوها من الزينة، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء. إلا أنه إذا دهم العدو، وجب على الناس كافة دفعه بأموالهم وأنفسهم، وانفضوا. فوجد الأمير سيف الدين قطز سبيلاً إلى القول، وأخذ ينكر على الملك المنصور وقال: لابد من سلطان ماهر قاهر يقاتل هذا العدو، والملك المنصور صبي صغير لا يعرف تدبر المملكة. وكانت قد كثرت مفاسد الملك المنصور علي بن المعز أيبك، واستهتر في اللعب وتحكمت أمه فاضطربت الأمور. وطمع الأمير يوسف الدين قطز في أخذ السلطنة لنفسه، وانتظر خروج الأمراء للصيد: فلما خرج الأمير علم الدين سنجر الغتمي، والأمير سيف الدين بهادر، وغيره من المعزية لرمي البندق- وكان يوم السبت رابع عشري ذي القعدة- قبض قطز على المنصور وعلى أخيه قاقان وعلى أمهما، واعتقلهم في برج بقلعة الجبل. فكانت مدة المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام.

.الملك المظفر سيف الدين قطز:

جلس على سرير بقلعة الجبل يوم السبت، الرابع والعشرين من ذي القعدة، سنة سبع وخمسين وستمائة. وهو ثالث ملوك الترك بمصر.
وفي خامسه: ولي الوزراء زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن يزيد بن الزبير، وصرف تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، فبلغ ذلك الأمراء فقدموا إلى قلعة الجبل، وأنكروا ما كان من قبض قطز على الملك المنصور، وتوثبه على الملك. فخافهم واعتذر إليهم بحركة التتار إلى جهة الشام ومصر، والتخوف مع هذا من الملك الناصر صاحب دمشق، وقال: وإني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك. فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة من شئتم، فتفرقوا عنه، وأخذ يرضيهم حتى تمكن. فبعث بالمنصور وأخيه وأمه إلى دمياط، واعتقلهم في برج عمره وسماه برج السلسلة، ثم سيرهم إلى بلاد الأشكري وقبض على الأمير علم الدين سنجر الغنمي المعظمي، والأمير عز الدين أيدمر النجيبي الصغير، والأمير شرف الدين قيران المعزي، والأمير سيف الدين بهادر، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير عز الدين أيبك النجمي الصغير، والأمير سيف الدين الدود خال الملك المنصور علي بن المعز، والطواشي شقبل الدولة كافور لالا الملك المنصور، والطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجمدار. واعتقلهم وحلف الأمراء والعسكر لنفسه، واستوزر الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير في خامس ذي القعدة، واستمر بالأمير فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي المعروف بالمستغرب أتابكا، وفوض إليه وإلى الصاحب زين الدين. تدبير العساكر واستخدام الأجناد وسائر أمور الدولة، واحتفل باستخدام الجنود والاستعداد للجهاد.
وورد الخبر بقدوم نجدة من عند هولاكو إلى الملك الناصر بدمشق، فكتب إليه الملك المظفر قطز وقد خافه كتاباً يترقق فيه، ويقسم بالأيمان أنه لا ينازعه في الملك ولا يقاومه، وأنه نائب عنه بديار مصر، ومتى حل بها أقعده على الكرسي، وقال فيه أيضاً: وإن اخترتني خدمتك، وإن اخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك على القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت إليك العساكر صحبة من تختاره،. فلما قدم على الملك الناصر كتاب قطز اطمأن.
وفيها سار هولاكو من بغداد بنفسه إلى ديار بكر، ونزل على آمد يريد حلب، ونازل حران ونصب عليها المجانيق- وكانت في مملكة الناصر يوسف- حتى أخذها. وقطع بعض جيشه الفرات وعاثوا في البلاد، فأجمع أهل حلب على الرحلة منها، وخرجوا جافلين. فاحترز نائبها المعظم تورانشاه بن الناصر يوسف، وجمع أهل الأطراف. وتقدم التتار حتى دنوا من حلب، فقتلوا كثيراً من عسكرها الذين خرجوا إليهم، ثم رحلوا عنها عاجلاً. فاضطرب الناصر وعزم على لقاء هولاكو، وخيم على برزة. وكتب إلى الملك المغيث صاحب الكرك، وإلى الملك المظفر قطز، يطلب منهما نجدة. ومع هذا فكانت نفس الناصر قد ضعفت وخارت، وعظم خوف الأمراء والعساكر من هولاكو: فأخذ الأمير زين الدين الحافظي يعظم شأن هولاكو، ويشير بألا يقاتل وأن يداري بالدخول في طاعته. فصاح به الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وضربه وسبه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين وفارقه إلى خيمته فمضى زين الدين الحافظي إلى الملك الناصر، وشكا إليه ما كان من الأمير بيبرس. فلما كان الليل هجم طائفة من المماليك على الملك الناصر، ليقتلوه ويملكوا غيره، وكان في بستان، ففر هو وأخوه الملك الظاهر إلى قلعة دمشق. فبادر الأمراء القيمرية جمال الدين ابن يغمور والأكابر إلى القلعة، وأشاروا على الناصر بأن يخرج إلى المخيم، فخرج. وعندما خرج ركب بيبرس وسار إلى عزة، وبها الأمير نور الدين بدلان كبير الشهرزورية، فتلقاه وأنزله. وسير بيبرس إلى الملك المظفر، قطز علاء الدين طيبرس الوزيري ليحلفه، فكتب إليه الملك المظفر أن يقدم عليه. ووعده الوعود الجميلة. ففارق بيبرس الناصرية، ووصل في جماعة إلى مصر، فأنزله الملك المظفر بدار الوزارة، وأقبل عليه وأقطعه قليوب وأعمالها.
وبلغ الناصر أن هولاكو أخذ قلعة حران وسائر تلك النواحي، وأنه عزم على أخذ حلب، فاشتد جزعه وسير زوجته وولده وأمواله إلى مصر، وخرج معهم نساء الأمراء وجمهور الناس. فتفرقت العساكر، وبقي الناصر في طائفة من الأمراء. ونزل هولاكو على البيرة وأخذ قلعتها- وأخذ منها الملك السعيد بن العزيز عثمان بن العادل، وله بها تسع سنين في الاعتقال، وولاه الصبيبة وبانياس-، ونزل على حلب.
ففر أهل دمشق وغيرها، وباعوا أموالهم بأبخس ثمن وساروا وكان الوقت شتاء، فهلك منهم خلق كثير، وسير الملك المغيث من بقي عنده من البحرية مقيدين على الجمال، وهم نحو الخمسين: منهم الأمير سنقر الأشقر. وسار أربعة من البحرية إلى مصر. وهم قلاوون الألفي، وبكتاش الفخري أمير سلاح، وبكتاش النجمي، والحاج طيبرس الوزيري.
وفيها كثرت الزلازل بأرض مصر.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة: جبي التصقيع من أملاك القاهرة ومصر.
وفي شعبان: قبض على رجل يعرف بالكوراني. وضرب ضرباً مبرحاً بسبب بدع ظهرت منه، وجد إسلامه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر.
وفيها بني هولاكو الرصد بمدينة مراغة، بإشارة الخواجا نصير الدين محمد الطوسي، وهو دار للفقهاء والفلاسفة والأطباء، بها من كتب بغداد شيء كثير وعليها أوقاف لخدامها.
وفيها استقل يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، ملك بني مرين، بملك فاس وعامة المغرب الأقصى.
وفيها سار عز الدين كيكاوس وركن الدين قلج أرسلان ابنا كيخسرو بن كيقباد من قونية إلى هولاكو، فأقاما عنده مدة ثم عادا إلى بلادهما.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، في ثالث عشر شعبان عن ثمانين سنة، دبر فيها الموصل نحو خمسين سنة. وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل، وسار ابنه علاء الدين علي مفارقاً لأخيه إسماعيل إلى الشام.
وتوفي الشريف منيف بن شيحة الحسيني أمير المدينة النبوية.
وتوفي صدر الدين أبو الفتوح أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي، ناظر الجامع الأموي، عن ستين سنة بها.
وتوفي نجم الدين أبو الفتح مظفر بن محمد بن إلياس بن السيرجي الأنصاري الدمشقي الشافعي، محتسب دمشق ووكيل بيت المال بها.
وتوفي الأديب بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن مكي بن محمد بن الحسين بن الدجاجية القرشي الدمشقي بها عن ست وستين سنة.